في هذا اليوم الذي يدعى "عيد العمال"، في زمن امتلأت فيه الساحات بالأعلام وارتفعت فيه المنابر تزاحمها الكلمات ثم انصرف الجميع إلى الاحتفاء المنمق بما يشبه طقسا سنويا تعودنا أن نحياه دون مساءلة، تقف العاملات في القطاع الفلاحي مرة أخرى على الهامش لا لأنهن أقل شأنا أو أثرا لكن لأن الصورة العامة لم تصمم لهن أصلا، وكأن الغائب عن هذا العيد هو الأكثر حضورا في ميادين الكدح فلا صوت لإحداهن يبث عبر الأثير،لا فقرة تسلط الضوء على معاناتهن في تقارير القنوات، لابند مستقل في ميزانية تفصل الأرقام كما تقصي الوجوه، فهل ما نعيشه احتفاء حقيقي بالعمل أم محض طقس يعيد إنتاج الإقصاء؟ وهل يمكننا بضمير صاف أن ندعي شمولية عيد لا يطالهن؟
ما بين الأرض التي يفلحنها وأصوات المدن التي لا تسمع صدى خطاهن تمتد مسافة طويلة من التهميش تتجاوز الجغرافيا لتلامس البنية الذهنية التي تنتج هذا الإقصاء، هن لسن مجرد عاملات ولكن أعمدة صامتة يحملن اقتصادا ريفيا هشا فوق أكتاف منهكة، يعبرن المواسم تحت رحمة الشمس والوحول، يقفن في مواجهة الطبيعة دون درع، ودون ضمانات ومع ذلك تعامل أجسادهن كما تعامل الأدوات، تستهلك ثم تنسى، تنهك ثم تستبدل، فهل يعقل أن تبقى هذه العلاقة غير المتكافئة بين النساء والأرض، بينهن والدولة بلا مراجعة ولا مساءلة؟
المرسوم عدد 4 لسنة 2024 لا يأتي كهدية ولا كإنجاز يسوق لكنه كإقرار صامت بأن شيئا فادحا كان مغفلا لعقود، إنه في جوهره كشف لما تم السكوت عنه أكثر من كونه ابتكارا تشريعيا، إذ ما جدوى القانون إذا لم يكن إلا اعترافا متأخرا صاغه الألم أكثر مما صاغته إرادة الدولة؟ لقد سبقته المآسي وتفوقت عليه المآتم وعبر عنه الوجع قبل أن يعبر عنه النص، ومع ذلك تظل المسألة لا في صدوره لكن في ما يليه، فهل ستترجم بنوده إلى إجراءات ملموسة؟ وهل ستغادر الكلمات الورق لتتحول إلى جسور أمان تنقل هؤلاء النسوة من هشاشة الحياة إلى كرامة الاستحقاق؟
لأن القانون مهما كان ناضجا في صياغته لا يملك قدرة ذاتية على التغيير إن لم يتكئ على إرادة سياسية حازمة وعلى وعي مجتمعي يرفض السكوت، وإن آليات التنفيذ ليست تفاصيل تقنية لكنها الامتحان الحقيقي لمدى احترام الدولة لذاتها أولا ثم لمواطنيها، فكل مرسوم لا يفعل هو شبهة تخاذل وكل التزام لا يحاط بأدوات الإنفاذ هو وعد فارغ، وهنا تطرح الأسئلة نفسها بإلحاح موجع فما قيمة النص إن لم يتحول إلى حماية؟ ما فائدة الحقوق إن بقيت نظرية؟ ولماذا يبدو تطبيق العدالة دائما أكثر صعوبة حين يتعلق بالفقراء؟
ثمة فجوة صارخة بين المرسوم وواقع العاملات في الحقول، فجوة لا يملؤها البيان السياسي ولا يرقعها التبرير الإداري، إنما تحتاج إلى خطة وإلى قرار وإلى شجاعة مواجهة البيروقراطية العقيمة التي طالما ابتلعت إصلاحات بأكملها تحت عنوان "الإجراءات الجارية"، فهل الدولة بجهازها التنفيذي والرقابي مستعدة لتحويل هذه الوثيقة إلى سياسة عامة؟ أم أنها كعادتها ستترك الأمر يتلاشى في ردهات الوزارات وبين الملفات المؤجلة؟
وما يزيد من تعقيد الصورة أن الصمت لم يأت من الدولة وحدها بل امتد إلى كل البنى التي كان يفترض بها أن تكون شريكة في الرقابة، من النقابات التي كانت دائما في مقدمة الدفاع عن العمال أين هي من معركة العاملات الريفيات؟ الأحزاب التي رفعت شعارات العدالة الاجتماعية أين خطابها حين يطلب الموقف لا التنظير؟ بعض الجمعيات النسوية التي احتلت صدارة المشهد حين تعلق الأمر بالمناسبات والندوات أين دورها حين تكون المعاناة ملموسة؟ فالصمت هنا ليس حيادا لكنه تورط والغياب لم يعد ظرفا لكنه سياسة.
هذا ولا ننسى تواطؤ المجتمع بأكمله مع هذا الصمت جعل من كل دعوة للاحتفاء بالعمل مجرد تمويه على اختلال عميق في سلم القيم، فحين تترك المرأة الريفية وحيدة في مواجهة المرض والحوادث والبؤس تحت أعين الجميع دون تأمين ولا اعتراف، فذلك لا يعكس تقصيرا طارئا بل خللا بنيويا عميق، خللا في تصورنا لمعنى المواطنة وفي إدراكنا لجوهر العدالة وفي الطريقة التي نحدد بها "من يستحق" ومن لا يستحق.
والمؤلم أكثر أن كل هذا يتم باسم السياسات العامة التي تتغنى بـ"المقاربة التشاركية" و"العدالة الجندرية" و"التمكين الاقتصادي" لكنها في الميدان لا تملك القدرة ولا الرغبة على أن تضمن لعاملة بسيطة تذكرة نقل لا تكلفها حياتها، فهل نحن أمام انفصام مؤسسي؟ أم أن الخطاب صار غطاء مثاليا لعجز واقعي؟ إلى متى نظل ننتج نصوصا نزيف بها ضمائرنا؟
المرسوم عدد 4 بهذا المعنى، ليس فقط وثيقة قانونية لكنه مرآة حقيقية تكشف المسافة بين ما نقوله وما نفعله وهو أيضا سؤال سياسي وأخلاقي في آن واحد فهل نريد فعلا إنصاف هؤلاء النسوة؟ أم أننا نكتفي بإسكات صوتهن بالقوانين كما نسكت صراخ الجياع بوصفات الشعر؟ إنه اختبار يومي للدولة إما أن تصون كرامة من يزرعن أرضها أو أن تقر ضمنا بأنها لم تعد دولة للجميع.
فحين تصبح الحياة اليومية معركة بين المرأة الريفية والمجهول، فإن كل تأخير في التفعيل ليس مجرد إهمال لكنه جريمة بصيغة التأجيل وكل وعد بلا تنفيذ هو إساءة مزدوجة إلى القانون اولا وإلى من صدقوا أن القانون ينصف ثانيا وما لم نبدأ من هنا، من هذا الملف بالذات في إعادة تعريف مفهوم الدولة العادلة، فإن كل عيد عمال قادم لن يكون سوى مشهد متكرر لاحتفالية تعيد إنتاج الجرح نفسه فقط دون أي تغيير يذكر.
لذلك لا نريد في هذا اليوم خطبا إضافية ولكن مواقف، لا نريد تصفيقا ولكن تغييرا، لا نريد مرسوما آخر ولكن تنفيذا صارما للذي بين أيدينا، فنساء الحقول لا يحتجن إلى كلمات تقال عنهن بل إلى حماية تمنح لهن وإلى اعتراف صريح بأن تعبهن ليس فائضا عن الحاجة بل هو أساس القوت ولبنة في الاقتصاد وروح في التربة، فإن لم ننصفهن الآن فمتى؟ وإن لم يكن القانون سلاحهن فبماذا ندافع عن هذا الوطن؟