لعبت البندقية، دورًا حاسمًا في معارك العثمانيين مع المماليك الجراكسة في مرج دابق وغيرها من المعارك التي دارت في بر مصر، والتي انتهت بانتصار العثمانيين وزوال ملك المماليك، في هذا المقال نتناول رؤية المماليك الجراكسة الغريبة لاستخدام البدقية وكيف كانت أحد أهم أسباب هزيمتهم؟
عندما لا تغني شجاعة الشجعان
يحكي ابن زنبل، أن المماليك في كل معاركهم مع العثمانيين كانوا يتفوقون عليهم في القتال بالسيف، وكادوا يهزمونهم، لولا أن استخدام المدافع والبنادق جعل كفة العثمانيين هي الراجحة، فما إن يجد العثمانيون بأس المماليك الشديد – فقد كانوا يقاتلون قتال الموت -، حتى يبدأوا في “إطلاق المدافع والبندقيات وحملوا على الجراكسة والعربان والمشاة مثل القطر في الثرى، وصار النهار عليهم مثل يوم القيامة، وكان يجيء (يقتل) كل مدفع على نحو خمسين أو ستين أو مائة نفس فصارت تلك الصحراء كالمجزرة من الدماء”.
وهو ما جعل ابن زنبل يعلق على ذلك متحسرًا “وما ضرهم إلا البندق، فإنه يأخذ الرجل على حين غفلة، لا يعرف من أين جاءه، فقاتل الله أول من صنعها، وقاتل من يرمي بها على من يشهد لله بالواحدانية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة”.
حكاية البندق
ويحكي ابن زنبل على لسان الأمير كرتباي الوالي عندما وقع في أسر سليم الأول، كيف رفض المماليك استخدام البندقية كسلاح في الحرب، فقال :
“قد جاء بهذه البندقية رجل مغربي للسلطان الأشرف قانصوه الغوري – رحمه الله تعالى وقتل قاتله – وأخبره أن هذه البندقية ظهرت من بلاد البندق، وقد استعملها عساكر الروم والعرب، فأمره أن يعلمها لبعض مماليكه (يقصد يدربهم على طريقة استخدامها) ففعل، وجيء بهم، فرموا بحضرته، فساءه ذلك، وقال للمغربي: نحن لا نترك سنة نبينا ونتبع سنة النصارى، وقد قال مولانا سبحانه وتعالى:”إن ينصركم الله فلا غالب لكم” فرجع ذلك المغربي وهو يقول: من عاش ينظر هذا الملك وهو يؤخذ بهذه البندقية، وقد كان كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”.
واستمر في محاججة سليم، مبررا أن البندقية، لو وجدت مع امرأة لقتلت بها الخلق الكثير فـ “هذه هي البندق التي لو رمت بها امرأة لمنعت بها كذا وكذا إنسانًا، ونحن لو اخترنا الرمي بها ما سبقتنا إليه، ولكن نحن قوم لا نترك سنة نبينا محمد، ويا ويلك كيف ترمي بالنار على من يشهد لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة”.
البدو والمماليك والبندق
وكذلك فمن ضمن أسباب انفضاض البدو عن المماليك الجراكسة، وامتناعهم عن قتال العثمانيين بجوارهم، استخدام العثمانيين للبنادق في القتال، مما جعلهم يفضون تحالفاتهم مع المماليك الجراكسة، بعدما رأوا بأم أعينهم كيف تحصد البنادق المقاتلين حصدًا.
فعندما قصد طومنباي قبائل هوارة في الصعيد وطلب منهم النصرة، كان ردهم أن قالوا: “قد بلغنا أن الروم تقاتل بالنار، ومن يطيق النار؟!، بل إن عرب الجيزة وأطفيح الذين قبلوا الاستمرار مع طومنباي في قتال العثمانيين، لما رأوا ما تفعله البنادق، قال بعضهم لبعض: ومن يطيق هذا الأمر المهلك؟ لا يقاتل هؤلاء إلا مجنون، أو فارغ من الحياة، ولكن نحن نرتفع عن هؤلاء إلى بعد، فكل من رأينا الكسرة عليه نهبناه”، وبهذا تفرق العرب عنه خوفًا من البندقية، فكان هذا سببًا في انكساره وهزيمته.
تفكير غريب
يستوقفنا تفكير المماليك الغريب في عدم استخدام البندقية كسلاح جديد في الحرب، على الرغم من معرفتهم بظهوره في أوروبا واستخدام العثمانيين له، مع قدرتهم على ذلك، فأسبابهم التي ساقها ابن زنبل لعدم استخدامه، تحتاج إلى دراسات حقيقية للبحث في مدى صدق هذه الأسباب، وكيف تكونت رؤيتهم للأمر، خاصة أنهم كانوا يعرفون ويستخدمون المدافع، فلماذا يستبيحون استخدام المدافع ويرفضون استخدام البنادق؟ وهل لذلك علاقة فعلاً باتباع سنة النبي، أم يتعلق الأمر بتعودهم على تقنية القتال القديمة، أم أي سبب آخر؟
بل إن موقف ابن زنبل نفسه غريب من الموضوع فهو يعلق على استخدام العثمانيين البندقية قائلاً نفس مقولة المماليك ومبررًا هزيمتهم بأنه “ما ضرهم إلا البندق، فإنه يأخذ الرجل على حين غفلة، لا يعرف من أين جاءه، فقاتل الله أول من صنعها، وقاتل من يرمي بها على من يشهد لله بالوحدانية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة”.
فكيف رأى علماء وفقهاء مصر والشام هذا الأمر، يحتاج ذلك لدراسات وتفتيش في تفاصيل تلك الفترة، لنفهم كيف تكونت رؤية أمراء وعلماء هذا العصر لتلك القضية العسكرية التي كانت أحد أوجه تغيير تاريخ المنطقة العربية، ليس في زوال دولة المماليك وتبعية المنطقة للعثمانيين لقرون حتى زوال خلافتهم، ولكن لعلاقة هذا الأمر بما أسماه ابن زنبل “سنة النبي وسنة النصاري” التي تسبب سوء فهمها في خسائر فادحة لأمتنا العربية في علاقتها بالغرب الغازي فيما بعد وفي دخولها عالم الحضارة الجديدة، حتى يومنا هذا.