في قلب العامرة من ولاية صفاقس يتجلى مشهد يستدعي التمحيص والتدقيق، إذ ينبثق من رحم الواقع كيان يبدو للوهلة الأولى مجرد تجمع بشري لكنه في حقيقته يعكس ظاهرة تتجاوز الأبعاد الاجتماعية والإنسانية لتطال جوهر السيادة الوطنية ذاتها، فمخيم المهاجرين جنوب الصحراء لم يعد مجرد محطة عبور عابرة بل أصبح فضاء قائمًا بذاته يضم مستشفيات، قاعات سينما، وبنية تحتية تشي بملامح تنظيم داخلي مستقل الأمر الذي يثير تساؤلات عميقة حول مدى قدرة الدولة على فرض نفوذها داخل حدودها المعترف بها، وليس من قبيل المبالغة القول إن هذا الواقع يستدعي مراجعة جوهرية لمفهوم السيادة ليس فقط من زاوية قانونية مجردة بل أيضا من منظور سياسي واستراتيجي يضع في الحسبان التحولات الديموغرافية والاقتصادية التي أفرزتها ظاهرة الهجرة غير النظامية.
مقالات ذات صلة:
الإدارة بين هيبة الدولة وإهانة المواطن
جدلية البناء والتحديات بين المواطنة والدولة الحديثة
وإذ كان مبدأ السيادة وفق النظريات الدستورية المستقرة يستوجب احتكار الدولة للسلطة على كامل إقليمها، فإن ما يحدث في هنشير بن فرحات يطرح إشكالية جوهرية حول مدى صلابة هذا المفهوم أمام تحديات الواقع، فبينما ينص الدستور التونسي في مادته الأولى على أن "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة" نجد أنفسنا أمام معطيات تعكس وجود إقليم داخل الإقليم أو على الأقل نواة لكيان مواز يمارس استقلالية وظيفية عن السلطة المركزية، وهذا الوضع وإن بدا للبعض ناتجا عن سياقات إنسانية فرضتها ظروف المهاجرين فإنه في جوهره يعكس ثغرة في المنظومة القانونية التي لم تواكب تطورات هذا الملف الأمر الذي يجعل الدولة في موقف المتفرج إزاء واقع يتشكل خارج إرادتها أو ربما نتيجة لتراكم قرارات ظرفية لم تؤسس لحل جذري ومستدام.
وإذا كان هذا المشهد يدعو إلى التساؤل عن مدى قدرة الدولة على التحكم في تطورات ملف الهجرة، فإن تعقيد المسألة لا يقتصر على البعد الداخلي بل يمتد إلى أبعاد إقليمية ودولية تجعل من تونس طرفا في معادلة أكبر تتجاوز حدودها الجغرافية، فالضغوط الأوروبية المتزايدة خاصة من إيطاليا وفرنسا تمارس تأثيرا مباشرا على سياسات الدولة في هذا الملف إذ تفرض عليها أعباء متزايدة دون أن تقدم حلولا عادلة لتقاسم المسؤولية، ومن هذا المنطلق يصبح التساهل في التعامل مع واقع المخيمات أشبه بمنطق "إدارة الأزمة" بدلا من "حل الأزمة" وهو ما يخلق بيئة خصبة لتكرار الظاهرة في مناطق أخرى بل ويؤسس تدريجيا لواقع جديد قد يتجاوز مجرد الإقامة غير النظامية إلى تكوين مجتمعات مهاجرة مستقلة ضمن النسيج الوطني بأعرافها وأنظمتها الداخلية التي قد تتعارض مع القوانين المحلية.
وفي ضوء هذا التعقيد المتنامي، يتعين على الدولة أن تتجاوز المقاربة التقليدية التي تعتمد على الحلول الأمنية الظرفية، إذ لم يعد الاكتفاء بحملات التفتيش أو الترحيل الجزئي كافيا لمعالجة الظاهرة، فغياب استراتيجية شاملة يجعل الدولة في موقع رد الفعل بدلا من الفعل وهو ما يؤدي بمرور الوقت إلى ترسيخ واقع يصبح التعامل معه أكثر تعقيدا، بل وربما مستحيلا، لذلك فإن إعادة النظر في الإطار القانوني المنظم للهجرة بات ضرورة ملحة ليس فقط لضبط الوضع الحالي بل أيضا لاستباق السيناريوهات المستقبلية التي قد تفرز تحديات أكبر، وهنا لابد من طرح تساؤل جوهري هل يمكن للدولة أن تستعيد سيادتها الكاملة دون إصلاح تشريعي عميق يواكب المستجدات؟ أم أن غياب الإرادة السياسية سيبقي الوضع على ما هو عليه إلى أن يتحول إلى أزمة مزمنة؟
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال البعد الدبلوماسي في معالجة المسألة، إذ إن التعامل مع ملف الهجرة لا ينبغي أن يقتصر على الداخل بل يجب أن يمتد إلى علاقات تونس مع الدول الأوروبية التي تستفيد من الدور التونسي في الحد من تدفقات المهاجرين دون أن تقدم مقابلا يتناسب مع حجم الأعباء التي تتحملها البلاد، فالاتفاقيات غير المتكافئة التي تفرضها بعض العواصم الأوروبية تجعل تونس في موقع المستضيف القسري في حين أن التعامل العادل مع الملف يقتضي إعادة التفاوض حول آليات توزيع المسؤولية بما يضمن تقاسم الأعباء بدلا من تحميلها لطرف واحد، ولا شك أن أي تهاون في هذا المسار سيكرس واقعا تصبح فيه تونس مجرد حاجز بشري بين إفريقيا وأوروبا دون أن تمتلك الأدوات اللازمة للتحكم في تداعيات هذه الوضعية على أمنها القومي واستقرارها الاجتماعي.
وإذا كان الحفاظ على الأمن الوطني يفرض بطبيعة الحال يقظة أمنية مستمرة، فإن المقاربة الأمنية وحدها لا يمكن أن تكون حلًا كافيا بل ينبغي أن تواكبها رؤية اجتماعية واقتصادية تأخذ في الاعتبار تأثيرات هذا الواقع على النسيج المحلي، فوجود كيان شبه مستقل داخل الدولة لا يمثل مجرد إشكالية قانونية بل قد يصبحمع مرور الوقت عامل توتر اجتماعي واقتصادي إذا لم يتم التعامل معه بسياسات استباقية واضحة، ومن هنا فإن الحل لا يكمن في المعالجة الظرفية بل في تبني سياسات بعيدة المدى تعيد رسم العلاقة بين الدولة والمهاجرين وفق أسس قانونية تضمن التوازن بين الحقوق والواجبات وتضع حدا لأي ممارسات قد تؤدي إلى نشوء مناطق خارجة عن سلطة الدولة.
إن ما يحدث في هنشير بن فرحات ليس مجرد تجمع بشري غير نظامي بل هو مرآة تعكس غياب رؤية استراتيجية متكاملة في التعامل مع ملف الهجرة، فالتعامل مع الظاهرة بمنطق الحلول الجزئية لن يؤدي إلا إلى تعقيدها وتحويلها إلى واقع دائم قد يتجاوز قدرة الدولة على السيطرة عليه مستقبلا، ومن هذا المنطلق فإن تأخير الحل الجذري لهذا الملف لا يعني سوى مفاقمة الأزمة بحيث تصبح التكلفة السياسية والاقتصادية لمعالجتها لاحقا أكبر بكثير مما هي عليه اليوم، فالمسألة لم تعد مجرد إشكال إداري عابر بل باتت قضية سيادة بامتياز والاختبار الحقيقي للدولة ليس في قدرتها على احتواء الظاهرة مؤقتا بل في امتلاكها لرؤية واضحة تمنع تكرارها وتؤسس لنظام هجرة متوازن يحفظ مصالح الدولة ويحترم في الوقت ذاته الالتزامات الإنسانية والدولية.