رجب طيب أردوغان لا يريد حوارا ولا يريد حلولا سلمية لهذه المشكلة. فثمة أزمات داخلية تواجهه لن تحلَّ إلا بحرب خارج الحدود يباركها الشارع والبرلمان التركيّان.
للعدوان الأردوغاني الأخير في شمال سوريا حجتان، الأولى إنشاء منطقة آمنة لإعادة اللاجئين السوريين من تركيا، والثانية وقف الارتباط بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وحزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب التركية. يسهل الجزم بأن الحجتين لا تستدعيان توغلا عسكريا، ولا تبرّران عدواناً مثل الذي تشنه أنقرة على شرق الفرات، ولكن ماذا كان البديل الممكن؟
صحيح أن حزب الاتحاد الديمقراطي، بذراعيه الأمنية والعسكرية، يدعم حزب العمال الكردستاني. وصحيح أيضا أن الأكراد حولوا مناطق شرق الفرات إلى “روج آفا” (غرب كردستان) رغماً عن الجميع. ولكن حلحلة هذه الخلافات كان من الأجدى والأقل كلفة إنسانياً، أن تكون إما عبر حوار تركي كردي برعاية أميركية، أو عبر حوار بين الأكراد ودمشق برعاية روسية ومباركة أميركية.
منذ أن أوعز عبدالله أوجلان من سجنه في تركيا بضرورة الحوار مع الأتراك، أدرك حزب الاتحاد الديمقراطي أن قادم الأيام يحمل تصعيدا سيئا، ولا بد من إبداء مرونة في الحوار مع الخصوم، لأن النوايا الأردوغانية لا تحمل خيرا، والرهان على الحامي الأميركي خاسر في الإدارة الحالية للبيت الأبيض، حيث أن الرئيس دونالد ترامب لا يقدم الهبات، وإنما المساعدات مدفوعة الأجر.
قدم أكراد سوريا مبادرات حسن نية في الحوار مع تركيا، أبدوا مرونة حيال الشريط الأمني الذي حاولت واشنطن أن تقيمه كي تمنح أنقرة وصاية مباشرة على طول الحدود السورية شرق الفرات. لكن اتضح أن رجب طيب أردوغان لا يريد حوارا ولا يريد حلولا سلمية لهذه المشكلة. فثمة أزمات داخلية تواجهه لن تحلَّ إلا بحرب خارج الحدود يباركها الشارع والبرلمان التركيّان.
عندما أدرك الأكراد أن أردوغان لا يريد الحوار، كان الأميركيون قد قرروا الخروج من مناطق الشمال. حينها أغلقت الحكومة السورية أبواب الحوار مع القامشلي وراحت تترقب تلك اللحظة التي يعبر فيها الجيش التركي الحدود إلى شرق الفرات، ويندم الأكراد على مبادرات روسية ربما كانت ستحميهم من أردوغان، ولكنها لن تضمن لهم إقليما مستقلاً أو إدارة ذاتية كالتي يعيشونها اليوم.
حتى الأمس القريب، لم يكن الأكراد بحاجة للاتفاق مع دمشق. رفعوا من سقف مطالبهم في الحوار مع الحكومة السورية، لأنهم لا يخشون غضب الآلة العسكرية الروسية ولا يستعجلون حل الأزمة السورية. أما اليوم وقد تبدلت الحال في الشمال، فقد أصبحت العودة إلى “حضن الوطن” بأقل المكاسب الممكنة، هي أفضل للأكراد من حرب مفتوحة في مناطقهم مع الأتراك والعرب.
مع انطلاق المرحلة الأولى من عملية “نبع السلام”، والتي يتطلع الأتراك من خلالها للسيطرة على مدينتي تل أبيض ورأس العين وكامل المساحة الممتدة بينهما، فتحت أبواب دمشق للحوار مجددا مع الأكراد، بأمر من الروس طبعا، وبرؤية اتفقت موسكو وأنقرة وواشنطن على محدداتها مسبقاً، لن ينال الأكراد فيها كل ما يتمنّون، ولكن النظام السوري أيضا لن يكون راضياً بنسبة مئة بالمئة.
في الإطار النظري للاتفاق، لن يُسمح بالأقاليم الذاتية في سوريا وإنما باللامركزية الإدارية. لا مجال لقوات كردية مستقلة ولكن الأكراد بتنظيماتهم العسكرية الحالية يمكن أن يكونوا جزءاً من الجيش السوري. دستور البلاد هو من يحفظ حقوق السوريين ولكن للأكراد حق المساهمة في صياغته، أما دعم حزب العمال الكردستاني فهو خيار لن يكون متاحاً للأكراد مع بدء تطبيق الاتفاق.
تطبيق مثل هذا الاتفاق كان سيكون أسهل بكثير لو لم تدخل تركيا إلى شرق الفرات، أو إذا قررت الانسحاب فورا من المناطق التي احتلتها. أما إذا أرادت أنقرة أن تصنع إدلب ثانية بين تل أبيض ورأس العين، فهذا يعني إما أن التسوية بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة تنطوي على تفاهمات أبعد من الميدان وتشمل اللاجئين وإعادة الإعمار، وإما أن التسوية منقوصة وغير ناضجة بعد.
وسواء كانت التسوية مكتملة أو أنها أعدّت على عجل، فإن التحديات التي تواجه تنفيذها كثيرة جدا، وبخطأ واحد صغير قد يُفتح فصل جديد في الحرب السورية المستمرة منذ نحو تسع سنوات. ليس بالضرورة أن يكون خطأ طرف من الأطراف المعنية بالاتفاق، فهناك إيران التي لم تُشمل بوضوح في هذه التسوية حتى الآن، وهناك تنظيم داعش الذي يُخشى أن تعود دولته بـ”الصدفة”.
أول مراحل الاتفاق بين الأكراد ودمشق ستتجسد بانتشار الجيش السوري على كامل الحدود الشمالية للبلاد. لن يكون ذلك ممكنا حاليا لأن الحدود غرب نهر الفرات تخضع لسيطرة الأتراك. ولكن تقدم الجيش إلى عين العرب والقامشلي يكفي لوضع حدود لعملية “نبع السلام” التركية من الشرق والغرب، وذلك تحت حماية جوية روسية وبتنسيق مستمر بين موسكو وأنقرة وواشنطن.
لا تريد تركيا مواجهة عسكرية مع روسيا، ولا تريد الولايات المتحدة أن تترك وراءها في سوريا حربًا تلام عليها لاحقا. هذا هو لب الاتفاق بين الدول الثلاث، وهذا هو ما تقرر في الاتصال الهاتفي الذي جرى بين ترامب وأردوغان في تلك الليلة التي ولدت فيها عملية “نبع السلام”. كل شيء جرى الإعداد له سريعاً فقط لأن واشنطن غيرت بوصلة حربها على الإرهاب من داعش إلى إيران.
محصلة التغيير الأميركي جعلت المستحيل ممكناً بالنسبة للروس، أوصلت الجيش السوري إلى الحدود الشمالية، وأعادت أكثر من ثلاثين بالمئة من البلاد إلى نظام الأسد دون رصاصة واحدة. إذا كان هذا الإنجاز لابد أن ينسب لأحد ما فالأكراد أحق به من الجميع. فقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي قال “إذا خُيّرنا بين الإبادة والتسوية سنختار الأخيرة حفاظاً على شعبنا”.
بهاء العوام
صحافي سوري