الصفحة 3 من 3
قراءة تاريخية
من هذا المنظور الساعي إلى إيجاد المدخل الرئيس لاستعادة الحقّ في التأويل، يتصدّى الباحثون المشاركون في الكتاب “هدى بحرون، عفاف مطيراوي، جمال اشطيبة، محمّد سويلمي، صالح الأحمدي، عبدالباسط القمّودي، محمد عبده أبوالعلا”، لمبدأ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر انطلاقاً من بيان مدى ارتباط الفهم المتطرّف لهذا المبدأ بقراءة تاريخيّة محفوفة بقبليّاتها الكامنة في الذّاكرة والوعي معا.
لكن هذا التضييق في تأويل المبدأ ترفضه هدى بحرون من خلال بحثها “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في القرآن والسنّة”، مقدمة فهما إيجابيا ينتصر لقيم السلام الكونيّ والمواطنة المعاصرة؛ باعتماد منهج جمع بين الأنثروبولوجيا والدراسة المقارنة والبحث المعجمي والاصطلاحيّ، فهما يؤكد أن دلالة هذا المبدأ في القرآن والسنّة لم تخرج عن التوجّه التوحيدي العام للتوحيد الإبراهيميّ نحو تحقيق السلام الإنسانيّ.
وبهذا المنظور عينه، ولكن بمنهج دراسة المتخيّل البشريّ التي تقرّ بأنَّ الأفكار والاعتقادات تبنى تراكميّاً في المتخيّل أوّلاً، ذهبت الباحثة عفاف مطيراوي في بحثها “مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المتخيّل الإسلاميّ” إلى أنّ المفهوم في أصله تعبير عن قيمتين إنسانيّتين أصيلتين هما الخير والشرّ، وأنَّ الإسلام هو الذي قبض عليهما دون سائر الأديان ليحوّلهما إلى فريضة دينيّة تؤسّس للجهاد في سبيل الله.
وحاولت من هذا المنطلق، فهم تشكّل هذا الواجب في المتخيّل الإسلامي، فبحثت في جذوره والآليّات التي أنتجته، ووظائفه، ورمزيّاته. واستعان الباحث جمال اشطيبة، بواحد من أساطين الفكر المقاصدي، المثقف والسياسي المغربي علال الفاسي، للاستدلال على ضرورة إعادة هذا المفهوم إلى سياقه الدينيّ العام الأصلي، الذي تتابعت الرسل والديانات على تشييده.
واهتمّ الكتاب بالأدلجة السياسيّة الكامنة في التأويل الجهاديّ لهذا المفهوم، عبر تعرية ارتباطاته بالمفاهيم السياسيّة الأساسيّة للإسلام السياسيّ، من قبيل الحاكميّة، والجاهليّة. وفي بحثه المتميّز “تشكّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من التوصيف إلى التوظيف، وأثر ذلك في نشأة التطرّف الدينيّ” بيّن صالح أحمدي الكيفيّة التي تمَّ بها من خلال التراث الفقهيّ والتفسيريّ تشكيل هذا المبدأ ضمن ثنائيّة ضديّة تقابل بالضرورة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولهذا سعى إلى تحريره من سجن هذه المقابلة اللّغويّة الثقافيّة، ليستعيد بُعده الأخلاقيّ التاريخيّ المهدور.
ومن جهته تتبّع الباحث عبدالباسط القمّوديّ، تاريخ تشكّل المعنى العنيف للمفهوم، انطلاقاً من مدلوله الأخلاقي المفتوح في القرآن، مروراً بعمليّة شرحه، ثمّ مأسسته في النّصوص جهاداً وحسبة تختصّ بهما الدولة، وصولاً إلى تنظيراته الجهاديّة بدايةً من حسن البنّا.
ومن منظور مختلف عن منظور تاريخ الأفكار، تطرق الكتاب إلى ظاهرة التطرّف الدينيّ عامّةً من بابها الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، وبحث عن أسبابها في العناصر المؤسّسة للمجال الواقعيّ الإسلاميّ، وردّها إلى مظاهر الفساد السياسيّ والظلم الاجتماعيّ والتهميش.
وسعى الكتاب إلى تقديم دليل من التراث المعتزليّ على أن التأويل الإسلامي ممكن لهذا المبدأ بما يجعل منه أساسا لثقافة التسامح والتعايش والسلم، تحت عنوان اعتزاليّ جعل هذا المبدأ أساساً للإيمان: “توقّي إلحاق الضرر بالآخر”.
وخلص إلى أن المعتزلة المعروفون باتجاههم العقلاني جعلوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خامس أصول مذهبهم بعد (التوحيد، والعدل، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد). حيث أنهم لا يوافقون الخوارج في فهمهم ولا في تطبيقهم له. وهم يعتبرونه من فروض الكفايات، بمعنى أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقي.
محمد الحمامصي
كاتب مصري