الفنانة الراحلة ماجدة الصباحي تميزت بالقدرة على التعبير عن الفتاة العربية الرومانسية وحافظت على تنويع أدوارها لتقدّم بعد ذلك أفلاما معبرة عن المرأة المصرية.
توفيت الممثلة والمنتجة المصرية ماجدة الصباحي الخميس عن عمر ناهز ثمانية وثمانين عاما بعد مشوار فني طويل زخر بالعشرات من الأفلام الاجتماعية والوطنية والدينية.
القاهرة- غيب الموت الفنانة المصرية ماجدة الصباحي الخميس، بعد رحلة عطاء فني طويل قدّمت خلالها نحو سبعين فيلما مثلت علامات فارقة في مجال السينما العربية.
وتُعد الراحلة نموذجا للفنانة ذات الحس القومي الرائد، حيث ساهمت في إثراء مسيرة الفن والإبداع، وتحويلها إلى وسيلة لدعم حركات التحرّر الوطني في العالم العربي خلال الستينات.
فتاة أحلام الشباب
تميزت ماجدة بالقدرة على التعبير عن الفتاة العربية الرومانسية، ذات الوجه البريء واللطف الظاهر، ما جعلها تمثل فتاة أحلام الشباب خلال سنوات تألقها الفني.
وتنتمي الفنانة إلى أسرة متوسطة من مدينة طنطا، شمال غرب القاهرة، وهي من مواليد مايو 1931 واسمها الحقيقي عفاف علي الصباحي وحصلت على شهادة البكالوريا الفرنسية نهاية الأربعينات، وظهرت لأول مرة بدور صغير في فيلم “الناصح” بطولة إسماعيل ياسين ومن إخراج سيف الدين شوكت سنة 1949. ويقال إنها قبلت ذلك الدور سرا دون أن تخبر أسرتها حتى عرفت بالأمر من الصحف.
كان من المدهش أن الكاتب المصري الراحل إحسان عبدالقدوس، من أوائل من توقعوا موهبتها الإبداعية، وكتب عنها في مجلة “روز اليوسف” سنة 1949 مسميا إياها بـ”رحيق الشفق”، ثم قال “انتظروا بنت أحد كبار موظفي الدولة ستقوم ببطولة فيلم سينمائي جديد بجوار إسماعيل ياسين”.
وبدأ القراء يسألون عن هوية هذه البطلة ويرسلون له بعض الأسئلة والاستنتاجات، فاضطرت الفتاة في النهاية لمصارحة والدتها التي رفضت في البداية، لكن إصرار الابنة على احتراف الفن دفع الأسرة بعد ذلك إلى الرضوخ للأمر بشرط مصاحبة ابنتها في الأستوديوهات للاطمئنان عليها، ما دفع الصحافة بعد ذلك إلى إطلاق لقب “عذراء الشاشة” على الفنانة. ومثلت سنوات الخمسينات بداية تألق الموهبة لدى الفنانة من خلال أفلام “سيبوني أغني”، “ليلة الدخلة”، “دهب” و“البيت السعيد”.
وساهم صعود حركات التحرّر الوطني في العالم العربي في بزوغ نجم ماجدة الفني، خاصة بعد أن قدّمت أفلاما تاريخية وطنية وعربية مثل فيلم “مصطفى كامل” سنة 1953، والذي يحكي سيرة الزعيم الوطني المصري إبان الاحتلال البريطاني، فضلا عن أفلامها “بلال مؤذن الرسول” و”انتصار الإسلام” و”الله معنا” و”الإيمان” في الفترة نفسها.
كما قدّمت نموذجا للفتاة الشقية الرومانسية في أفلام “دعوني أعيش”، “بنات اليوم”، “في سبيل الحب” و”الآنسة حنفي”.
وكان أكثر ما ميز الأدوار التي قدّمتها قدرتها الكبيرة على تقمّص الشخصيات والتأثير في المشاهد، بمظهرها وأدائها الصوتي الممتزج بالبراءة والطفولية من خلال بحة لطيفة تتّسم بالدلع.
ومن المثير للإعجاب قدرتها على التحوّل من شخصية الطالبة المراهقة ابنة الأرستقراطية العتيدة إلى الفلاحة البسيطة أو بائعة الجرائد أو الصحافية المنتمية للطبقة الوسطى أو الفتاة المؤمنة بالإسلام والتي تدافع عن عقيدتها وتتحمل في سبيل ذلك صنوفا من التعذيب.
لا شك أن النجاح الكبير الذي حقّقته الفنانة خلال سنوات الخمسينات شجعها على التحوّل إلى إنتاج الأفلام السينمائية لتقدّم فيلمها التاريخي الشهير “جميلة” سنة 1958 الذي تناول تفاصيل الكفاح الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من خلال حكاية المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد من إخراج يوسف شاهين.
واعتبر الفيلم إرهاصة مبكرة لاستخدام فن السينما كإحدى أذرع القوى الناعمة ضد خصوم الخارج استنادا لحماس وولع الشعوب بالكفاح ضد الباطل ومقاومة الاحتلال والدفاع عن كرامة الأوطان.
حس قومي
يمكن القول إن فيلم “جميلة” قدّم صورة لشخصية الثائر الجزائري باعتبارها شخصية جادة، لا تعرف هزلا، ترى ما تريد، تُنحي العواطف جانبا عند الأحداث العظام، وتترس بالجرأة، وتُنكر التلوّن وتمقته وتنفر من المهادنة، ولا تقبل بأنصاف الحلول.
وعلى الرغم من بعض التحفظات التي أبداها نقاد عرب ومتابعون ومشاهدون للفيلم، إلاّ أنه يحسب له كونه أول دعاية حقيقية للثورة الجزائرية، وإطلالة مبكرة على الضمير الجزائري الرافض للخضوع والكاره للانبطاح والساعي نحو التغيير السلمي. ويحسب للفنانة ماجدة الصباحي تحمسها ومخاطرتها لتحمل إنتاج العمل، فضلا عن أدائها التمثيلي المتميز الذي وصل إلى حد موافقتها على قصّ شعرها بالكامل لتبدو كسجينة لدى السلطات الفرنسية. وتبقى من الفيلم عدة عبارات موحية مسجلة بذاكرة الجمهور مثل قول جميلة “المعركة الكبيرة عبارة عن معارك صغيرة متتالية”، أو عباراتها المحفّزة للآمال مثل “اللحظات الصعبة ستمر وسنتذكرها بافتخار ورضا”. ويكفي أن المفكر الفرنسي جان بول سارتر قال عنها “هذه الممثلة أبكتني وأنستني جنسيتي”.
تزوجت الفنانة الراحلة سنة 1963 بالفنان إيهاب نافع الذي كان طيارا جويا قبل أن ينجرف إلى الفن ورزقت منه بابنتها الوحيدة الفنانة غادة نافع.
وحكى إيهاب نافع، الذي عمل لفترة في جهاز المخابرات المصرية، عن تعرفه بماجدة في مذكراته المعنونة “لعبة الفن والمخابرات”، والتي حرّرها أيمن الصياد، أنه كان الضابط المخصّص لمرافقة الفنانة خلال أعمال تصوير فيلم “جميلة” بتوجيه من جهاز المخابرات ونشأت قصة حب معها انتهت بالزواج، غير أن ذلك الزواج لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما انفصلا، لكنها لم تقترن بعده بأحد.
وظلت الفنانة الراحلة قادرة على تنويع أدوارها في السينما لتقدّم بعد ذلك أفلاما معبرة عن المرأة المصرية كـ“أنف وثلاث عيون”، “جنس ناعم”، “النداهة”، وكان آخر أدوارها السينمائية في فيلم “ونسيت أني امرأة” سنة 1994. وشاركت ماجدة في بعض المسلسلات الإذاعية مثل “أعلنت عليك الحب” و”الحياة قصيرة قصيرة”.
واختيرت الراحلة عضوا في لجنة السينما بالمجالس القومية المتخصّصة، وظلت على مقربة من الوسط الفني، وحصلت خلال مشوارها على العديد من الجوائز من مهرجانات دمشق الدولي وبرلين وفينيسيا الدولي، كما حصلت على جائزة وزارة الثقافة والإرشاد من مصر.
ويقول الناقد الفني طارق الشناوي إن هناك علاقة خاصة جمعت الفنانتين فاتن حمامة وماجدة، حيث ولدتا في نفس العام وماتتا في نفس الشهر، كما جمعتهما آخر جائزة حصلتا عليها في العام 2014 (جائزة عيد الفن).
ويشير لـ”العرب”، “كلاهما تصلح للقياس، وسعت نجمات الأجيال التالية إلى تبني مدرسة إحداهنّ”، مشددا على خصوصية رحلة ماجدة الفنية وسط عائلة محافظة من الصعيد لشقيق ضابط، حتى أن المخرج عاطف سالم كان مهددا بالقتل من عائلتها لتصويره قبلة جمعتها بعمر الشريف في فيلم “شاطئ الأسرار” وصرحت ماجدة أن المخرج هو من أجبرها على أدائها.
ويؤكد على أن لقبها “عذراء الشاشة” ذو دلالة ويتناقض مع الصورة الذهنية الشعبية الخاطئة عن تعدّد علاقات الفنانين، وتلك الصورة جعلتها أقرب للجمهور. كما تطرق إلى إنتاجها 10 أفلام من بين 70 فيلما أنتجتها، وهو عدد كبير يعكس همها الوطني والقومي.
ممثلة مغامرة
نعت الفنانة نبيلة عبيد الفنانة الراحلة، وقالت “هي من نجماتي المفضلات اللاّتي تربيت على أفلامهنّ، وكانت من أسباب ارتباطي بالسينما خصوصا مع تنوّع أدوارها بين الفتاة الأرستقراطية وبائعة الجرائد والثائرة”.
وقال نقيب المهن التمثيلية في مصر الفنان أشرف زكي، “وفاة الفنانة ماجدة خسارة للفن المصري، فهي إحدى قاماته، وارتبطت أجيال عديدة بالفنانة الراحلة، وهي التي قدّمت الفن الحقيقي الذي نفتقده حاليا”.
وأشار زكي إلى أن ماجدة كانت نموذجا للفنانة المثقفة المطلعة، وبرز ذلك في اختياراتها الفنية ومنها “جميلة” و”الحقيقة العارية” الذي لعبت فيه دور مرشدة سياحية مضربة عن الزواج، حتى أفلامها الأولى ذات الطابع الكوميدي. فقد كانت كوميديا غير مبتذلة، فهي فنانة ذات طابع فريد ميزها بين فنانات جيلها، ظلت ماجدة تمثل قيم حب الحياة ومثالا يحتذى به، وظلت حاضرة رغم اعتزالها الفني الطويل.
وتحتفي الناقدة الفنية حنان شومان بقيمة الفنانة ماجدة كمنتجة على نحو خاص، معتبرة أن تلك القيمة لا تقل عن قيمتها كممثلة وربما تزيد. وتوضح “ماجدة واحدة من نجمات جيل هو الأبرز ويضم فاتن حمامة وشادية وهند رستم وغيرهنّ، ورغم ذلك لم تخض أيّ منهنّ المغامرة الإنتاجية التي خاضتها ماجدة فميزتها”.
وتضيف لـ”العرب” أن مغامرتها الإنتاجية لم تكن محسومة النتائج في صناعة السينما، فتجربتها لم تكن بغرض المكسب وإنما للقيم المؤمنة بها، وأسفر ذلك عن إنتاج مجموعة من الأفلام الخالدة.
وأكد الناقد الأدبي والفني أحمد عزيز أن الفنانة الراحلة ماجدة تبقى واحدة من أهم النجمات اللائي أنجبتهن السينما المصرية خلال تاريخها، حيث قدّمت العشرات من الأفلام التي مازالت خالدة، وشاركت إنتاج أفلام أخرى وأسّست لنفسها مدرسة خاصة في التمثيل، لاسيما في دور الفتاة الرومانسية الرقيقة والبريئة.
وتعد رقة ماجدة من الإشكاليات المثارة دائما حولها، إذ يعتبرها البعض لاسيما من الأجيال الأحدث “مبالغا فيها” ويصفونها بتعبير “السهوكة” (كلمة شعبية تعني الرومانسية المبالغة).
ويعتبر عزيز أن عدم استيعاب الأجيال الأحدث للمدرسة الرومانسية التي تعد ماجدة رائدتها الرئيسية هو اختلاف ثقافات، لافتا إلى أنها قدّمت أعمالا متنوعة، ولم تحبس نفسها داخل لون واحد، ثائرة بذلك على ملامحها التي أهلتها للعب دور الفتاة الرومانسية الحالمة.
وأشار عزيز إلى كونها “ممثلة مغامرة” فلم تكتف بتجربتي التمثيل والإنتاج، فخاضت تجربة التأليف والإخراج في فيلم “من أحب” في العام 1966، وهي تجربة الإخراج والتأليف الوحيدة لها، وقامت بدور البطولة بجانب أحمد مظهر وإيهاب نافع ونعيمة وصفي.
وعدّ الناقد الفني ماجدة من نوع الفنانات اللاّتي يحملن قيمة داخلهنّ يظللن محتفظات بها، وانعكس ذلك في اختياراتهن الفنية ذات القيم أيضا، والتي تظل طازجة مهما مرّ الوقت، صالحة للاستدعاء والاستشهاد دائما، كحلول لبعض قضايا المجتمع الملحة، وخاصة ما تعلق منها بالمرأة ومساواتها بالرجل.
ويلفت عزيز إلى دورها المجتمعي، عندما طلبت من الرئيس جمال عبدالناصر في العام 1962 زيادة رواتب المدرسين لأكثر من سبعة جنيهات ونصف الجنيه، واستغلت لقاءها به في المؤتمر الوطني الذي أقيم في جامعة القاهرة، ولبّى لها الرئيس جمال طلبها في اليوم التالي مباشرة.
وكرمها الرئيس المصري الراحل أنور السادات بعد فيلم “العمر لحظة”، وشهد أنها واحدة من الفنانات اللاّتي قدّمن فنا جادا له رسالة قوية ومؤثرة.
مصر - مصطفى عبيد و رحاب عليوة