القوة العسكرية ضمانة لتواصل نفوذ العملة الأميركية، ومخاوف حلفاء واشنطن ومنافسيها غير متبوعة ببدائل.
نجح الدولار الأميركي في العقود الأخيرة، في قيادة النظام العالمي المالي متخطيا كل العملات الأخرى المنافسة بما في ذلك اليورو، عبر تمكنّه من فرض نفسه في الأسواق العالمية كأهم وحدة فوترة في مجال التجارة العالمية أو في تسوية أكبر الصفقات الدولية، لكن مع تصاعد نفوذ بعض دول الشرق كالصين التي أصبحت مؤهلة وفق الخبراء لقلب النظام المالي العالمي وما سيرافق ذلك من تحجيم لدور الدولار في الاقتصاد العالمي، أو مواصلة واشنطن خنق العالم بالعقوبات والسياسيات الحمائية، أصبح القلق يثير مسطّري السياسات الاقتصادية الأميركية حول مستقبل الدولار.
واشنطن - يحذّر العديد من الخبراء، من أن سياسات الولايات المتحدة قد تربك وضع الدولار، خاصة لما تثيره الخطوات العقابية والحمائية التي ينتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب من جدل قد يجبر بعض البلدان الفاعلة في الاقتصاد العالمي على إيجاد بدائل، منها اللجوء إلى بطاقات ائتمان بديلة وترتيبات للدفع تتجنّب الدولار تمامًا.
ومع تصاعد الجدل حول الدلائل التي تشير إلى وجود تغيّرات ستطرأ على النظام العالمي المالي، فان العديد من الخبراء يؤكدون أن الخطوات التي تتخذها الدول المنافسة للولايات المتحدة للابتعاد عن الدولار غير كافية بالمرة لوضع حد لسيطرة الدولار على العالم.
ورغم امتعاض الدول المنافسة للولايات المتحدة من اتخاذ واشنطن عقوبات اقتصادية ضد إيران أو الصين أو دول أوروبية، فان القوة العسكرية والثروة الاقتصادية للولايات المتحدة تدعم الدور المركزي للدولار ليتم تعزيز النفوذ المالي العالمي الأميركي.
هذا الجدل الجديد – القديم حاولت مجلة “انترناشيونال انترست” الأميركية فك شيفراته في تقرير بعنوان “مستقبل الدولار ودوره في الدبلوماسية المالية”.
كل هذه المخاطر المحدقة بالدولار تبدو مستبعدة لما يتميز به من ميزات أهمها قيادة العملات الأخرى في توفير وظائف الأموال للمعاملات الدولية، علاوة على كون الدولار هوالمقوم الأساسي للاقتراض الخارجي من قِبَل الشركات والحكومات.
ويؤكد تقرير “انترناشيونال انترست” أن الدولار يعكس القوة الأميركية وغياب البدائل المعقولة.
لكن كل هذه الأدوار تواجه مخاطر متزايدة، إذ يشكك كل من الجمهوريين والديمقراطيين في فوائد النظام الاقتصادي المنفتح والمتكامل. ويثير المنافسون الشكوك حول الاعتماد على قوة مهيمنة واحدة.
ولا تزال القوة العسكرية والسياسية الأميركية في غاية الأهمية ولا يزال المستثمرون يلجؤون إلى الدولار كلما زادت مخاطر النظام العالمي الحالي. لكن انتخابات منتصف المدة الأميركية أثارت جدلا حول الأجندة العالمية لأميركا. في الواقع، يمنح الاعتماد العالمي على الدولار لواشنطن نفوذاً لتنسيق المعارك ضد الإرهاب والجريمة الإلكترونية ولتشكيل قواعد مكافحة الفساد وتجنّب الضرائب، وحماية الخصوصية من خلال تنظيم تدفقات البيانات العالمية التي ستساهم في ازدهار الابتكار الاقتصادي، خلال العقود القادمة.
ورغم كل المصاعب، تواصل قيادة الولايات المتحدة توفير إطار عالمي حاسم للنموّ القوي والمستدام والمتوازن. كما أن الثقة في الدولار تُطوّر دور الولايات المتحدة من منصبها كرئيس تنفيذي إلى شريك إداري، يدافع عن نزاهة النظام المالي العالمي إلى جانب مصالحه الخاصة.
وفي إحدى الاستطلاعات التي أجرتها أستاذة الاقتصاد في جامعة هارفارد غيتا جوبيناث، التي أصبحت الآن كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، بينت أنّ حصة التجارة العالمية التي تم تحرير فواتيرها بالدولار هي أكثر من ثلاثة أضعاف حصة الولايات المتحدة من الصادرات العالمية. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، لا يزال الدولار يمثل 62 بالمئة تقريبًا من جميع الاحتياطيات السيادية، فيما يبلغ اليورو 20 بالمئة.
ويشير التقرير إلى أن المبادلات الاقتصادية للولايات المتحدة واضحة. فإصدار عملة الاحتياط العالمية يوفر إمكانية طباعة النقود. كما تسمح هيمنة الدولار لواشنطن بتأجيل أو تغيير أي تكاليف للتكيف العالمي مع الدول الأخرى. كما يمكن أن تسهم سهولة الوصول إلى الائتمان في الولايات المتحدة في تعزيز سعر الصرف الذي يضر بالصادرات ويزيد العجز المالي والتجاري. تتحمل واشنطن أيضاً مسؤولية توفير المدخرات الآمنة خلال الأزمات.
غياب البدائل
تأتي هيمنة الدولار الأميركي على النظام العالمي المالي من غياب بدائل منافسة تكون قابلة للتطبيق، فحتى العملة الأوروبية الموحدة اليورو لم تنجح في خلق ثقل مواز لنفوذ الدولار.
وكتب روبرت مونديل، الحائز على جائزة نوبل “القوى العظمى لها عملات كبيرة، ويبدو من غير الخلاف أن التأثير العالمي والمال العالمي متشابكان”، مضيفا أن الولايات المتحدة عرفت أنها تستفيد من قوتها العسكرية. كما يتأتى نفوذ الدولار من هيبة المؤسسات الأميركية والثقة في نواياها. حيث تدعم القوة العسكرية والاقتصادية حصة الدولار المهيمنة في التجارة والاستثمار، علاوة على الإيمان بالمؤسسات السياسية الأميركية الذي عزز دوره كعملة احتياطية وملاذ آمن. وضعت الولايات المتحدة مصالحها الخاصة قبل فترة طويلة من إدارة ترامب، لكنها فسرتها بشكل عام لتشمل بناء قواعد ومؤسسات مالية عالمية تنطبق على الجميع.
ونتاجا لهذه السياسيات المتبعة، تزايدت مخاوف الحلفاء والمنافسين للولايات المتحدة خاصة من ناحية الشكوك في عملاء البنوك الذين تم إخبارهم بأن جميع الرسوم قد تم رفعها لأن الإدارة تحتاج إلى إعطاء الأولوية للمساهمين أولاً.
ويرجّح تقرير “انترناشيونال انترست” أنه قد يكون البيان صحيحًا من الناحية القانونية، إلا أنه يمثل إستراتيجية عمل مشكوكا فيها. ففي الوقت الذي تستمر فيه القوى الاقتصادية الأخرى في الظهور، فإن هذه القواعد تصبح المتفق عليها والقيود المشتركة أكثر تركيزا على حماية مصالح الولايات المتحدة.
وكنتاج لتمكّن الولايات المتحدة من فرض نفسها كقوة اقتصادية أساسية، بدأت الدبلوماسية المالية بتنسيق سياسة الاقتصاد الكلّي وأنظمة الاستثمار والتنظيم المصرفي. وأعطت هيمنة الدولار واشنطن دورا متميزا في مجال واسع من المفاوضات، بما في ذلك إعادة هيكلة الديون والمعارك ضد الإرهاب والجرائم العابرة للحدود.
وقد امتد النفوذ الأميركي إلى ما بعد الأساسيات السليمة للاقتصاد الكلي، فانبثاق البنوك لمعاقبة المشتبه فيهم ينبع من رغبتها في الاحتفاظ بالتمتع بنظام الدولار.
كما حثّت قوة الاقتصاد الأميركي الدول الأخرى على مناقشة معايير العمل والبيئة الجديدة خلال محادثات التجارة مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ، وحتى المراجعات لاتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية.
في المقابل، تمتد الضغوط على دور الدولار في بقية الدول الأخرى. رغم أهميته، لم تكن هناك إستراتيجية واضحة لحماية سمعة العملة وصقلها. وأدى هذا إلى تعمّق الشكوك حول القيادة المالية الأميركية بشكل حاد خلال الأزمة المالية العالمية التي اعتبرها البعض نتيجة للإهمال الأميركي.
وينتاب حلفاء أميركا قلقا بشأن مصداقية المشاركة الأميركية في تشكيل النظام المالي العالمي. في ظل مضايقتهم بالعقوبات الأميركية التي تبدو مصممة لحماية المصالح التجارية الأميركية بدلاً من تعزيز المعايير العالمية.
مخاوف الحلفاء
رغم أن العقوبات المالية ضد إيران ناجحة، إلا أنها أثارت مخاوف في باريس خاصة عندما قام المنظمون الأميركيون بتقييم ما يقرب من 9 مليار دولار من الغرامات على بنك “بي.إن. بي باريبا” لمدفوعات إلى إيران بناء على تفسير موسع للولاية القضائية الأميركية. في الوقت نفسه، يندد المنافسون مثل روسيا والصين بالعقوبات المالية التي تجبرهم على اللجوء إلى بطاقات ائتمان بديلة وترتيبات للدفع تتجنّب الدولار تمامًا.
وتشير الدلائل إلى أن الاقتصادات الأخرى سوف تنمو وتترك الولايات المتحدة مع حصة اقتصاد عالمي منخفضة. وجادل ذلك العلماء بتأكيدهم أنّ عالمًا من العملات الاحتياطية سيكون أكثر عدلاً وأكثر استقرارًا. خاصة أن الولايات المتحدة استخدمت النظام العالمي المالي الحالي لمصلحتها الخاصة.
ولا توجد سوابق تاريخية تشير إلى التقليل من الأزمات المالية أو تحقيق ازدهار خلال الفترات التي تتنافس فيها عدة عملات من أجل الهيمنة. في حين أنه من الممكن في ظل الظروف الحالية تخيّل أن أوروبا يمكن أن تساعد في استقرار الأسواق بالتعاون مع الولايات المتحدة. على الطرف الآخر لا يزال أمام الصين نضال طويل قبل كسب ثقة جيرانها المباشرين، ناهيك عن منافسيها العالميين.
ويخلص التقرير إلى أنه إذا كان على الولايات المتحدة حماية استقرار النظام العالمي، فيجب أن تؤكد على النجاحات الفعلية عبر التزام أميركا مع مجموعة العشرين ومجموعة السبعة بالبحث في إصلاح النظام المالي العالمي، ووضع إستراتيجيات أفضل للحد من الديون السيادية المفرطة، ونصرة آليات التمويل التي تعالج تغيّر المناخ.