في قلب كل أمة تقف المدرسة كمرآة تعكس تطلعاتها، تحدياتها، ومستقبلها، وفي تونس هذه المرآة بدأت تتشقق تدريجا للتكسر أطرافها حتى غدا انعكاسها مشوشا، مضطربا بين ما كان يطمح إليه يوما وما آل إليه الواقع من خيبات مركبة، لسنوات ظل التعليم شعارا متكررا في الخطب الحكومية وأولوية معلنة في السياسات الوطنية غير أن النتائج على الأرض لا تعكس هذا الزخم الظاهري إنما تؤكد يوما بعد يوم أن النظام التعليمي قد أصبح عنوانا مأساويا لانفصام الدولة عن مشروعها المجتمعي.
مقالات ذات صلة:
صدمة في واشنطن: ترامب يغلق وزارة التعليم وسط عاصفة من الجدل!
الحق في التعليم للأطفال ذوي الإعاقة في تونس بين الالتزام الدستوري والخذلان الواقعي
إضراب عام في التعليم الثانوي يوم 26 فيفري: مطالب مالية وتشريعية على الطاولة
تظهر البيانات الحديثة أن الإنفاق الحكومي على التعليم في تونس بلغ 6.73% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2023 متجاوزا بذلك المتوسط العالمي البالغ 4.4% ومع أن هذا الرقم يبدو للوهلة الأولى دليلا على التزام الدولة، إلا أن ما تراه العيون في المدارس العمومية من أقسام متداعية، موارد منعدمة، معلمين منهكين، وتلاميذ تائهين يشي بأن المشكلة أعمق من الأرقام وأن المال وإن توفر لا يعوض غياب الرؤية وانعدام الحوكمة وتآكل الإيمان بدور المدرسة.
في المقابل، شهدت نسبة الالتحاق بالمدارس الخاصة ارتفاعا غير مسبوق حيث بلغت في التعليم الابتدائي سنة 2020 قرابة 7.71% وهو أعلى معدل تسجله تونس منذ عقود، وهذا التحول لا يقرأ فقط من زاوية العرض والطلب لكنه يفهم باعتباره انعكاسا لفقدان الثقة الشعبية في المدرسة العمومية واتجاه الطبقة الوسطى رغم الصعوبات المادية إلى البحث عن فضاءات تعليمية أكثر استقرارا ونجاعة حتى وإن كانت باهظة الثمن.
لكن ما يبدو خيارا للبعض هو في الحقيقة مأزق للكل، إذ لا يمكن بناء عدالة تربوية على منطق الفرز المالي ولا يؤسس لمواطنة حقيقية في ظل منظومة تعليمية تنتج التفاوت بدل أن تذوبه، هنا تبدأ الأزمة في التشكل لا كمعطى تربوي فحسب لكنها كخلل بنيوي في العقد الاجتماعي نفسه.
وحين نمعن النظر في أرقام الانقطاع المدرسي ونقرأ إحصائيات تفكك البنية التربوية لا نكون إزاء ظواهر قطاعية معزولة إنما نلج صميم أزمة وجودية تضرب الدولة في معناها والمجتمع في تماسكه والإنسان في جوهر تكوينه، إذ أن التعليم ليس مرفقا خدماتيًا فحسب لكن هو الشرط البنيوي الأول لقيام الدولة الحديثة، فحين تفشل الدولة في ضمان تعليم عادل، مجاني، متكافئ فإنها لا ترتكب مجرد خرق إداري بل تعلن فشلها الأخلاقي والسياسي وتتحول من راعية للمجتمع إلى جهاز بيروقراطي أعزل أمام معركة التاريخ.
فلقد كان ميثاق الجمهورية الأولى، غير المكتوب يؤسس لمدرسة عمومية جامعة، موحدة، عادلة، كانت فخر الفقير ومصعد المهمش وسلاح التونسي في معركته من أجل الكرامة، تلك المدرسة التي أنتجت نخبا ورموزا ومواطنين مؤمنين بقيم الدولة تحولت اليوم إلى خندق طيني يغرق فيه الحلم الوطني، أقسام مهترئة، مناهج منتهية الصلاحية، معلمون محبطون، تلاميذ منقطعون وأمل يُسحب ببطء من تحت أقدام الطبقات الهشّة.
أكثر من 100 ألف تلميذ يغادرون مقاعد الدراسة سنويا دون أثر يذكر لبرامج احتواء أو إعادة إدماج وأكثر من مليون ونصف مليون شاب خارج المدرسة بلا تعليم، بلا تدريب، بلا عمل، بلا مشروع، بلا بوصلة، هذه الكتلة البشرية المجهولة المصير ليست مجرد مؤشر على الفقر أو التهميش إلا انها تعيش في ما يشبه "المقبرة الجماعية المؤجلة" حيث تدفن فيها الطاقات قبل أن تولد والأحلام قبل أن تُصاغ.
وإذا ما أردنا تفكيك هذه المعضلة بمشرط الباحث القانوني وجب التوقف عند مفارقة دستورية صارخة، إذ أن الفصل 38 من الدستور التونسي سواء في نسخة 2014 أو في دستور 2022 ينص بوضوح على أن التعليم حق لكل مواطن وأن الدولة تضمن التعليم المجاني بكافة مراحله وتجعل التعليم إجباريا إلى سن السادسة عشرة، ورغم جلاء النص فإن الواقع يؤكد غياب آليات تنفيذ فعالة وتضاؤل أثر المساءلة وعجز القضاء عن فرض التزامات الدولة التربوية.
فمن حيث المبدأ، توجد آليات للطعن الإداري والقضائي ويمكن نظريا للمواطن أن يواجه تقصير الدولة عبر المحاكم إلا أن الممارسة كشفت عن هشاشة هذا الإطار الإجرائ وعن غياب شبه كلي لثقافة مساءلة الدولة تربويا عبر القضاء، فلم تسجل إلى اليوم قضية قضائية محورية تحمل المسؤولين الذين قصروا في واجبتهم او الدولة التونسية مسؤولية تقصيرها الدستوري في ضمان التعليم أو تعكس توجها شعبيا منظما للدفاع عن المدرسة العمومية من زاوية الحق، نعم قد توجد دعاوى متفرقة تتعلق بحقوق فردية أو بطعون تسجيل أو توزيع لكنها لم تبلغ بعد مستوى المساءلة الشاملة لنظام تربوي منهك أو لقرارات إدارية كارثية ولم يشهد إلى الآن حكم قضائي يجبر الحكومة على إعادة فتح مدرسة ريفية أغلقت أو يلزمها بتوفير معلمين للمناطق المهمشة أو يحتم عليها تخصيص ميزانيات استثنائية لجهات تعاني نسب انقطاع مدرسي كارثية.
هذا الغياب لا يعد مجرد ثغرة قانونية إنما يعكس في جوهره انكسار العلاقة بين المواطن والدولة وتآكل الإحساس بفاعلية القضاء في كبح التجاوزات التعليمية، إذ لم تفعل آليات الطعن القضائي بما يكفي ولا بُني وعي جمعي يعتبر المدرسة مرفقا عاما يوجب الرقابة القضائية والمحاسبة المؤسساتية، ومن ثم فإن النص الدستوري رغم وجاهته ظل معزولا عن الواقع كأنه شهادة شرف تعلق على الجدران لا وثيقة حقوق ملزمة في المحاكم.
كما وإن استمرار هذه الوضعية يفرز بالضرورة حاجة ملحة لإعادة تعريف وظيفة المدرسة لا كمؤسسة لتلقين المعارف فقط لكن كفضاء إنتاج للمعنى وصياغة للهوية ومختبر للعدالة الاجتماعية، فكل مدرسة لا تصنع مواطنا حرا، ناقدا، متشبثا بالقانون هي مؤسسة فاشلة مهما بلغ عدد نجاحاتها الشكلية، ولا يمكن للخطابات الحكومية أن تضللنا بالحديث عن "إصلاح تربوي" بينما تدار نفس السياسات العقيمة وتطرح نفس الحلول السطحية كرقمنة الدروس أو مراجعة البرامج وهي حلول لا تعدو أن تكون تجميلا لوجه نظام يحتضر.
ولا يمكن فصل أزمة التعليم عن هشاشة موقع المعلم داخل المجتمع، إذ لا إصلاح ممكن دون معلم حر وكفء ومحترم ماديا ومعنويا، المعلم هو القاضي الأول في حياة الطفل وإذا لم يمنح ما يكفل استقلاله وأمانه المهني فلن تكون المدرسة سوى قاعة انتظار طويلة نحو السقوط.
ولا عدالة تربوية دون عدالة جغرافية، فالمناطق الداخلية من جندوبى إلى بن قردان لا تحتاج إلى خطط طارئة لكنها إلى مشروع وطني يعترف بكرامة الجهة كما يعترف بحق الفرد فكل إصلاح لا يبدأ من الهامش لا يصل أبدا إلى المركز.
وفي النهاية، لا يمكن أن تبنى ديمقراطية حقيقية دون تعليم عادل ولا معنى للحداثة أو المواطنة أو الدولة الاجتماعية في ظل منظومة تعليمية تنتج الغبن واليأس، فالمدرسة ليست مرآة للمجتمع فقط لكنها مشرط تعديله وصندوق أسراره وجسر عبوره إلى المستقبل وحين ينهار الجسر لا يسقط التلميذ وحده لكن تسقط الدولة بأكملها في النهر.
وإذا لم تعد الدولة قادرة على حمل الطفل إلى قسمه فإنها عاجزة حتما عن حمله إلى صندوق الاقتراع أو إلى سوق العمل أو إلى حلم يستحق أن يعاش.