تونس تحتل المرتبة الخامسة عالميا في نسبة عدد مستهلكي الخمور مقارنة بعدد السكان.
يفخر التونسيون بماضيهم المجيد في ثقافة النبيذ، منذ أن كان "جدهم القديم" ماغون Magon عالم قرطاج صاحب أقدم مخطوطة في الهندسة الزراعية بالعالم، يعتم بأشجار العنب لكن بين ثقافة ضاربة في القدم وشجب شعبي وتحريم ديني يجد التونسي نفسه في ورطة.
تونس - كل المؤشرات إلى الأسفل، إلا نسب إنتاج المشروبات الكحولية في ارتفاع مستمر بتونس.
تقول فتاة جامعية (22 عاما) “نحن في تونس، من يريد أن يصلي فليصلِّ، والذي يريد معاقرة الخمر فليسكر”، كدليل على حرية التونسيين في اختياراتهم واختلافهم “الذي لا يفسد للود قضية”.
وينظر التونسيون، في غالبيتهم، إلى النبيذ على أنه جزء من ثقافتهم وتاريخهم. “أن تشرب دون أن تسكر فهذا ليس محرما”، هكذا يقول بعضهم رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة بالبلاد منذ 8 أعوام، إذ تؤمن نسبة كبيرة من التونسيين بأن الإسلام دين حريات، ولهذا لا ترى في تعايش المساجد ومزارع كروم الخمور على أرض واحدة تناقضا، بل هو من مميزات البلاد.
ويرتبط المثقفون التونسيون بعلاقة “مميزة” مع الخمور وخاصة النبيذ.
يقول سامي (33 عاما) “بين التونسي وشرب الخمر قصة حب كبيرة. يشرب بغاية المرح والانشراح، يشرب لكي ينسى همومه، يشرب لأنه أنهى يوم عمل شاق، يشرب لطرد القلق، يشرب لأن لديه مخزونا من الخمر في المنزل… والتونسي، عندما يتعاطى الكحول يتحوّل، وأنت وحظك إلى ماذا سيتحوّل حين ترافقه”.
وقال زعيم حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي بعد عودته إلى تونس إبان ثورة 14 يناير 2011 إن “هدفنا ليس منع الخمور ولكن تقليل الطلب عليها”.
وبعد 8 سنوات من ذلك التاريخ تحديدا احتلت تونس المرتبة الخامسة عالميا في نسبة عدد مستهلكي الخمور مقارنة بعدد السكان.
ورصد تقرير صادر عن منظمّة الصحّة العالميّة نسق استهلاك الجعة والخمور في مختلف دول العالم، حيث جاءت تونس في صدارة الدول العربية بمعدل استهلاك سنويّ تجاوز 26 لترا للفرد الواحد، بل تفوقت على دول أوروبيّة معروفة باستهلاكها المرتفع للخمور، كفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
وبلغ عدد المُستهلكين للخمر بحسب الغرفة الوطنية لمنتجي وموزّعي المواد الكحولية التابعة للاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية أكثر من مليوني مستهلك.
كما ارتفع إنتاج الخمور بنسبة 15 في المئة مقارنة بإنتاج سنة 2011.
وكشفت الغرفة الوطنية التونسية، لمنتجي وموزعي المواد الكحولية أن التونسيين يستهلكون 200 مليون قارورة خمر، و300 مليون قارورة جعة سنويا. ولم تفرّط الدولة في قطاع إنتاج الخمور، بل تمسّكت باحتكار إنتاجه وتوزيعه ليتحوّل إلى أحد أهمّ موارد الدولة وآلية أساسيّة في تعديل عجز الموازنات العموميّة.
وتعود زراعة التبغ وإنتاج الكحول في تونس على خزائن الدولة سنويّا بما يقارب 671.136 مليون دولار، تتوزّع بين 413.728 مليون دولار من إنتاج التبغ، و257.408 مليون دولار من المنتوجات الكحوليّة. وهو ما يعني أن هذه الأنشطة الاقتصاديّة تساهم بما يقدّر بـ7 بالمئة من الناتج المحليّ.
وتشغّل صناعة الجعّة والخمور ما يقارب 100 ألف مواطن، بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
الخمر ثقافة أصيلة
تعمل نسبة كبيرة من الشعب التونسي بمقولة الشاعر الفرنسي شارل بودلير “اسكروا. لا بد للمرء من أن يكون نشوان دائما. تلك هي الخلاصة، تلك هي القضية الوحيدة. فلكي لا تشعروا بعبء الزمن الفادح الذي يُحطم كواهلكم ويحني قاماتكم للتراب، لا بد لكم من أن تسكروا بلا هوادة”.
وبيّن الوسيلة في بقية المقولة “ولكن بماذا؟ بالخمر أو بالشعر أو بالفضيلة، بحسب ما تهوون.. ولكن اسكروا”. فيختار التونسيون أن يسكروا بالخمر حصرا. ويقول علي موظف (42 عاما) “كل شيء بات يبعث على الضجر في البلاد: صراخ السياسيين في بلاتوهات القنوات التلفزيونية، نكد المتأسلمين، ارتفاع الأسعار، غلاء المعيشة، إضراب الأساتذة، أزمة النداء، أفواج العاطلين عن العمل، الفساد، الحراقة (المهاجرون غير الشرعيين) في عرض البحر… وآخرها المدرسة القرآنية”.
وتجمع كل الدراسات النفسية والاجتماعية والاقتصادية أن التونسي ما بعد 2011 ليس هو نفسه التونسي ما قبل هذه المرحلة. ويقول عماد الرقيق المختص في علم النفس “إن الارتفاع الكبير في نسبة استهلاك التونسي للكحول بعد الثورة ومن وراء ذلك الإدمان على المخدرات وعلى شرب الكحول، يعكس حالة من التأزم النفسي والقلق وعمق الاضطرابات النفسية التي يعيشها التونسي. وارتفاع استهلاك الكحول هو مؤشر خطير وصادم، على الدولة أن تأخذه مأخذ الجد وتحاول معالجته بتقصي الأسباب الحقيقية التي تقف وراءه”.
وصنفت تقارير عالمية الشعب التونسي في صدارة الشعوب الأكثر كآبة وتوترا في العالم. فتنامي ظاهرة الإرهاب وتزايد أعداد الجريمة تسببا في هروب التونسيين إلى المشروبات الكحولية في محاولة لنسيان اليومي بفقره وعنفه وعدم استقراره.
والمؤكد أن نسبة الإقبال على استهلاك المشروبات الكحولية في تونس ستظل في ارتفاع مطّرد ما دام الوضع العام في تدهور.
ويقول خبير “المعادلة بسيطة. تناول الكحول لم يكن أبدا مشكلا ولن يكون أبدا حلا. إذ خلف الإدمان دائما أزمة نفسية واجتماعية. لكن الناس يحتاجون إلى الكحول ليبعثوا الأمل في أنفسهم ويقاموا الضجر الذي يملأ حياتهم”.
تونس السكرانة
في كتابه “تونس السكرانة” تناول الصحافي حسن بن عثمان بالسرد والتحليل تجربته الذّاتية مع الخمر.
وفي مقدمة كتابه يوضح المؤلف أن سبب اختياره لموضوع الخمر يعود أساسا إلى حالة الغيبوبة التي تبدت له طاغية على حالة التونسيين من هرم السلطة إلى عامة الناس. فهو يشخص الوضع بأنه يتسم بفقدان المدارك والبوصلة تماما، وبالتالي فنحن إزاء حالة سكر كلية إلى حدّ الترنح والتعتعة.
ولا يتقيد الكاتب بعالم الخمر وشاربيه بقدر ما يوضح أن “السكر بالخمر هو أرحم أنواع السكر مقارنة بالسكر بالسلطة والسكر بالجاه والثورة والزعامة، وغير ذلك من أنواع السكر الناتجة عن تأثير غير مشروب الخمر البريء، ممّا تعانيه البلاد من حالة سكر شديد، قد يصيبها بالهلاك”.
ويقول بن عثمان إن المشروبات الكحولية في تونس، “من المنْكَرات الشعبية التي تقوم على مفارقة غريبة: نحن نشجب شُربها جهرا ولكنّنا نتحايل عليها خلسة” لنقتنيها بطرق شتى تؤشر على استهلاك واسع لها في كلّ الأوساط الاجتماعية”.
ويضيف “لولد العنبة” خلاّن كثر في ربوعنا، وقد تزايد عددهم بعد الانتفاضة (يقصد الثورة). يقتنون حاجاتهم من المشروب العجيب عبر مسالك تجارية معلومة كالمغازات الرئيسية بالمدن الكبرى. في غياب الحانات، يباع خلسة خلف أبواب دكاكين ليلية بالأحياء الشعبية وكثيرا ما تكون البضاعة رديئة ومغشوشة. وقد كان التعتيم الذي يحفّ بالخمر لدى العامّة والخاصّة حافزا لإنجاز هذه المحاولة الفكرية”.
ويوضّح بن عثمان أنّ “هذه النوعية من الكتابة والاستقصاء عن موضوع الخمر في البلاد تعتمد على تجارب شخصية لكاتبها، وينقصها التوثيق والمراجع والمعطيات الدّقيقة والشهادات المؤيدة”.
ويتابع مؤكدا أنّ “الشعور بالإثم، في هذا المجال، شعور قديم قد ازداد اليوم تأزّما بعد أن تفشّت ظاهرة ما يسمّى بالإسلام السياسي، نحن ننزع، كبقية شعوب العالم، إلى الاستمتاع بما لذّ وطاب من أكل وشراب وبما جادت به علينا كروم أفريقية منذ أن كان جدّنا الفلاح القديم، ماغون، يتفنّن في العناية بالأشجار المثمرة، خاصة بالعنب ومشتقّاته. لكن خطاب الوعيد والمُحَرم للخمر وملذات الحياة الدنيا، فاقم اليوم من أزمتنا الروحية فأفرز سلوكا انشِطاريا لدى جل من يتعاطى الخمر شُربا أو تجارة”.
ويسوق حسن بن عثمان في كتابه أمثلة عديدة لشخوص تعاني من هذا الوعي البائس ويتوقّف طويلا لوصف الفصام (الشيزوفْرِينيَا) الذي ينتاب بائعي الكحول “في سعيهم إلى تبييض الأموال الحرام، ينتهج صاحب الحانة سلوكا ساديّا إزاء حرفائه من “السُّكَارْجِيّه” (السكارى)، إذ يوغل في التنكيل بهم ليقتصّ من الحرام في زبائنه الذين يعتبرهم أولاد حرام، ويشربون مشروبا محرّما، وعليه أن يهينهم ويذلّهم ويعتدي على كرامتهم وأموالهم التي يصرفونها عنده”.
ويرصد كتاب تونس السكرانة بعدا توثيقيا في المجال الثقافي، إذ يرصد ظاهرة تونسية مخصوصة ترتقي إلى مرتبة الحقيقة التاريخية: لقد لعبت حانات العاصمة دورا محوريا في تشكّل الساحة الثقافية من السبعينات إلى أواخر التسعينات.
ويروي بن عثمان، فضلا عن فعاليات المآدب واللقاءات الرّسمية، تلك “القعدات” الخمرية التي جمعته بالمُبدعين وأضحت بتواترها في الزمان والمكان مجالا حرّا يتواجدون فيه فكريا، يَقِيهم أحيانا من “الكُبّي” (النكد) الجماعي ومن منغّصات السلطة بكل أشكالها.
لقد كانت خمّارات شارع الحبيب بورقيبة، كما يصوّرها حسن بن عثمان، تعجّ مساء بالذين أصيبوا بـ”لوثة الفنّ”، كتابا ورسّامين. وكانت دار الصحافي ودار الكاتب وفضاء بوعبانة امتدادا لها، فهي فضاءات تحمل يافطة مهنية وثقافية، لكنّها في واقع الأمر لا تختلف كثيرا عن أجواء البارات المليئة بالواشين والمنافقين ورهوط شتى من “اللون البشري”.
بيد أن بن عثمان لا يصور ندماءه الصحافيين والمبدعين في مظهر الضحية، إذ يركّز على هشاشة أوضاعهم الشخصية والمهنية دون أن ينخرط في خطاب التظلّم الفئوي الرّتيب، بل إنه يذكّر، بشيء من الاعتزاز، بتلك المعوّقات التي تشهد على تحدّي مبدعين كُثر لصلف السلطة مثل الشاعر الراحل الصغيّر أولاد أحمد والرّسام الكبير محمود بوعبانة، وفق الكاتب شعبان الحرباوي.
وفي خاتمة تونس السكرانة، يكثّف حسن بن عثمان مساءلته للمدونات الدينية موضّحا أنّ الإسلام حرّم السّكر لأنّه مظهر من مظاهر الإفراط المُخِلّ بكرامة الفرد وبالقيم الجمعية. ويجتهد في استقراء النصوص والمواقف التي تُحِل شربَ الخمر وتلك التي لا تصرح بتحريمه، مستدلا بمقولات المفكّرين المختصين مثل المفكر التونسي محمّد الطالبي.
ويقول الحرباوي إن “حسن بن عثمان، عندما يخوض في الأحكام الفقهية المتعلّقة بالخمر، إنّما يؤكّد على أهليته كمثقف وأحقيته كمواطن مسلم لتأويل النصوص الدّينية كي لا تبقى معانيها حِكرا على الفقهاء. لكنّ هذا الحِجَاجَ الختامي يشكّل سلاحا ذا حدّين، إذ يعيد قضية التونسي مع الخمر إلى دائرة الحلال والحرام ويضع، بالضرورة، “اجتهاد” بن عثمان وغيره من المُحدَثين في خانة الفتاوى. وكأنّي بحسن بن عثمان يقرّ، في نهاية المطاف، بعلوية المدوّنة الفقهية على حياة الناس”.
ويضيف الحرباوي “يتوفّر كتاب تونس السكرانة على قّوة معنوية وثقافية هائلة تدفع نحو تطبيع العلاقة بين التونسي والخمر. لقد استمدّ هذه الطاقة الإيجابية من مبدأ إنساني بسيط يتلخّص في أنّ حبَّ الخمرة من حبّ الحياة. لذلك كانت الحانة ولا تزال رافدا مهمّا لأدب البهجة في الثقافة التونسية، وإن تفقّه المتفقّهون”.
لبنى الحرباوي
صحافية تونسية