تونس السكرانة
في كتابه “تونس السكرانة” تناول الصحافي حسن بن عثمان بالسرد والتحليل تجربته الذّاتية مع الخمر.
وفي مقدمة كتابه يوضح المؤلف أن سبب اختياره لموضوع الخمر يعود أساسا إلى حالة الغيبوبة التي تبدت له طاغية على حالة التونسيين من هرم السلطة إلى عامة الناس. فهو يشخص الوضع بأنه يتسم بفقدان المدارك والبوصلة تماما، وبالتالي فنحن إزاء حالة سكر كلية إلى حدّ الترنح والتعتعة.
ولا يتقيد الكاتب بعالم الخمر وشاربيه بقدر ما يوضح أن “السكر بالخمر هو أرحم أنواع السكر مقارنة بالسكر بالسلطة والسكر بالجاه والثورة والزعامة، وغير ذلك من أنواع السكر الناتجة عن تأثير غير مشروب الخمر البريء، ممّا تعانيه البلاد من حالة سكر شديد، قد يصيبها بالهلاك”.
ويقول بن عثمان إن المشروبات الكحولية في تونس، “من المنْكَرات الشعبية التي تقوم على مفارقة غريبة: نحن نشجب شُربها جهرا ولكنّنا نتحايل عليها خلسة” لنقتنيها بطرق شتى تؤشر على استهلاك واسع لها في كلّ الأوساط الاجتماعية”.
ويضيف “لولد العنبة” خلاّن كثر في ربوعنا، وقد تزايد عددهم بعد الانتفاضة (يقصد الثورة). يقتنون حاجاتهم من المشروب العجيب عبر مسالك تجارية معلومة كالمغازات الرئيسية بالمدن الكبرى. في غياب الحانات، يباع خلسة خلف أبواب دكاكين ليلية بالأحياء الشعبية وكثيرا ما تكون البضاعة رديئة ومغشوشة. وقد كان التعتيم الذي يحفّ بالخمر لدى العامّة والخاصّة حافزا لإنجاز هذه المحاولة الفكرية”.
ويوضّح بن عثمان أنّ “هذه النوعية من الكتابة والاستقصاء عن موضوع الخمر في البلاد تعتمد على تجارب شخصية لكاتبها، وينقصها التوثيق والمراجع والمعطيات الدّقيقة والشهادات المؤيدة”.
ويتابع مؤكدا أنّ “الشعور بالإثم، في هذا المجال، شعور قديم قد ازداد اليوم تأزّما بعد أن تفشّت ظاهرة ما يسمّى بالإسلام السياسي، نحن ننزع، كبقية شعوب العالم، إلى الاستمتاع بما لذّ وطاب من أكل وشراب وبما جادت به علينا كروم أفريقية منذ أن كان جدّنا الفلاح القديم، ماغون، يتفنّن في العناية بالأشجار المثمرة، خاصة بالعنب ومشتقّاته. لكن خطاب الوعيد والمُحَرم للخمر وملذات الحياة الدنيا، فاقم اليوم من أزمتنا الروحية فأفرز سلوكا انشِطاريا لدى جل من يتعاطى الخمر شُربا أو تجارة”.
ويسوق حسن بن عثمان في كتابه أمثلة عديدة لشخوص تعاني من هذا الوعي البائس ويتوقّف طويلا لوصف الفصام (الشيزوفْرِينيَا) الذي ينتاب بائعي الكحول “في سعيهم إلى تبييض الأموال الحرام، ينتهج صاحب الحانة سلوكا ساديّا إزاء حرفائه من “السُّكَارْجِيّه” (السكارى)، إذ يوغل في التنكيل بهم ليقتصّ من الحرام في زبائنه الذين يعتبرهم أولاد حرام، ويشربون مشروبا محرّما، وعليه أن يهينهم ويذلّهم ويعتدي على كرامتهم وأموالهم التي يصرفونها عنده”.
ويرصد كتاب تونس السكرانة بعدا توثيقيا في المجال الثقافي، إذ يرصد ظاهرة تونسية مخصوصة ترتقي إلى مرتبة الحقيقة التاريخية: لقد لعبت حانات العاصمة دورا محوريا في تشكّل الساحة الثقافية من السبعينات إلى أواخر التسعينات.
ويروي بن عثمان، فضلا عن فعاليات المآدب واللقاءات الرّسمية، تلك “القعدات” الخمرية التي جمعته بالمُبدعين وأضحت بتواترها في الزمان والمكان مجالا حرّا يتواجدون فيه فكريا، يَقِيهم أحيانا من “الكُبّي” (النكد) الجماعي ومن منغّصات السلطة بكل أشكالها.
لقد كانت خمّارات شارع الحبيب بورقيبة، كما يصوّرها حسن بن عثمان، تعجّ مساء بالذين أصيبوا بـ”لوثة الفنّ”، كتابا ورسّامين. وكانت دار الصحافي ودار الكاتب وفضاء بوعبانة امتدادا لها، فهي فضاءات تحمل يافطة مهنية وثقافية، لكنّها في واقع الأمر لا تختلف كثيرا عن أجواء البارات المليئة بالواشين والمنافقين ورهوط شتى من “اللون البشري”.
بيد أن بن عثمان لا يصور ندماءه الصحافيين والمبدعين في مظهر الضحية، إذ يركّز على هشاشة أوضاعهم الشخصية والمهنية دون أن ينخرط في خطاب التظلّم الفئوي الرّتيب، بل إنه يذكّر، بشيء من الاعتزاز، بتلك المعوّقات التي تشهد على تحدّي مبدعين كُثر لصلف السلطة مثل الشاعر الراحل الصغيّر أولاد أحمد والرّسام الكبير محمود بوعبانة، وفق الكاتب شعبان الحرباوي.
وفي خاتمة تونس السكرانة، يكثّف حسن بن عثمان مساءلته للمدونات الدينية موضّحا أنّ الإسلام حرّم السّكر لأنّه مظهر من مظاهر الإفراط المُخِلّ بكرامة الفرد وبالقيم الجمعية. ويجتهد في استقراء النصوص والمواقف التي تُحِل شربَ الخمر وتلك التي لا تصرح بتحريمه، مستدلا بمقولات المفكّرين المختصين مثل المفكر التونسي محمّد الطالبي.
ويقول الحرباوي إن “حسن بن عثمان، عندما يخوض في الأحكام الفقهية المتعلّقة بالخمر، إنّما يؤكّد على أهليته كمثقف وأحقيته كمواطن مسلم لتأويل النصوص الدّينية كي لا تبقى معانيها حِكرا على الفقهاء. لكنّ هذا الحِجَاجَ الختامي يشكّل سلاحا ذا حدّين، إذ يعيد قضية التونسي مع الخمر إلى دائرة الحلال والحرام ويضع، بالضرورة، “اجتهاد” بن عثمان وغيره من المُحدَثين في خانة الفتاوى. وكأنّي بحسن بن عثمان يقرّ، في نهاية المطاف، بعلوية المدوّنة الفقهية على حياة الناس”.
ويضيف الحرباوي “يتوفّر كتاب تونس السكرانة على قّوة معنوية وثقافية هائلة تدفع نحو تطبيع العلاقة بين التونسي والخمر. لقد استمدّ هذه الطاقة الإيجابية من مبدأ إنساني بسيط يتلخّص في أنّ حبَّ الخمرة من حبّ الحياة. لذلك كانت الحانة ولا تزال رافدا مهمّا لأدب البهجة في الثقافة التونسية، وإن تفقّه المتفقّهون”.
لبنى الحرباوي
صحافية تونسية