الدول العربية بدأت تعزز حضورها اللافت في أفريقيا وتسعى إلى فرض العمل التكاملي الاستراتيجي وعدم حصر العلاقات في تعاملات فردية.
بدأت الدول العربية تخطو بشكل جدي في سباق التنافس العالمي الحاد على القارة الأفريقية، وهي خطوات ولئن لم ترتق بعد بالقارة إلى مستوى الشريك الاستراتيجي إلا أنها تسجل حضورا هاما يمثله أساسا المغرب والسعودية والإمارات ومصر.
الرباط- تشهد القارة الأفريقية وتيرة متسارعة من التنافس الدولي على الاستثمار فيها سياسيا وعسكريا واقتصاديا. تغزو الصين الأسواق الأفريقية وتستثمر في البنية التحتية لكثير من دول القارة وتقدم لها القروض دون أي شروط أو حدود. في المقابل، تسعى الولايات المتحدة جاهدة للإمساك بكل الخيوط السياسية والعسكرية. أما فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، فلا تسمح لأحد أن ينازعها في ما ملكت سابقا وحاضرا. ودخلت على خط التنافس تركيا، عبر بوابة المساعدات الإنسانية والاستثمارات.
لكن، وبينما ينظر الأفارقة لهذا التدافع المحيط بهم من كل حدب وصوب، يلاحظون غيابا لافتا للدور العربي رغم أن ما يجمعهم مع العرب أكثر مما يفرقهم. ويرى الخبراء خطرا في غياب العرب عن القارة معتبرين أنه على البلدان العربية أيضا أن تدخل هذا السباق، وتتسلح بأساليب جديدة تواكب المعطيات العالمية الراهنة، وتواجه تحديات كبرى مثل التدخلات الخارجية التي تتخذ من المنطقة قاعدة لزعزعة استقرار دول عربية، ومحاربة مكامن التطرف والإرهاب.
مسيرة وتحديات
كان لتعثر مسيرة التعاون العربي الأفريقي أسبابه العديدة، منها تدهور أسعار النفط خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي، والحروب الأهلية في أفريقيا وحرب الخليج، والحظر الذي فرض على العراق وليبيا والسودان، وكذلك الخلافات العربية-العربية، والأفريقية-الأفريقية، والعربية-الأفريقية.
إجمالا، يتأرجح حجم التبادل التجاري العربي الأفريقي بين 40 و45 مليار دولار، بينما وصل حجم التبادل التجاري مع الصين إلى 116 مليار دولار، ومع اليابان 119.7 مليار دولار، أما مع الاتحاد الأوروبي فوصل إلى 289.2 مليار دولار، مما يعني أن بلدان العالم الأخرى خاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين هي المستفيد الأكبر من صادرات الدول الأفريقية ووارداتها.
وهذا يؤكد أن القارة السمراء عند الدول العربية ما تزال دون مرتبة الشريك الاستراتيجي بالرغم من أهميتها الجيوسياسية والأمنية. فهل تمتلك هذه العلاقة التاريخية الإمكانيات والقدرات اللازمة لتحقيق ما هو مأمول أن تكون عليه؟ وهل لديها القدرة على توظيف ما هو متاح من إمكانيات؟ ثم ماذا عن التحديات والقيود والعراقيل الذاتية والموضوعية؟ هل ثمة إدراك لها؟ وهل هناك وسائل تمكن من التعامل معها؟
تلك الأسئلة وغيرها باتت مطروحة بقوة على القمة الخامسة التي ستعقد في الرياض في عام 2020. ولا شك أن استضافة القمة من طرف دولة بحجم وثقل السعودية مهم جدا بهدف الارتقاء بالعلاقات العربية الأفريقية ولعب أدوار طلائعية في المحيط الأفريقي لاسيما بعد أن أحدثت كل من السعودية والمغرب وزارة تُعنى بالشؤون الأفريقية، ومن المنتظر أن تلعب مصر والمغرب والسودان دورا استراتيجيا بوصفها نوافذ مميزة في مد جسور التعاون والاستثمار في علاقات جنوب-جنوب، وفق قاعدة رابح-رابح.
عوامل ومحفزات الاستمرار
بدأت الدول العربية تعي أهمية تعزيز مواقعها وقوتها الاقتصادية والدبلوماسية في أفريقيا بالتوازي مع علاقاتها مع أوروبا وآسيا والولايات المتحدة. ويترجم هذا التوجه الجديد احتلال الإمارات المرتبة الثانية على قائمة أبرز استثمارات رأس المال في أفريقيا لسنة 2017. ويأتي المغرب ثالثا، والسعودية في المرتبة الخامسة بعد إيطاليا وفق تقرير منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية.
ويعد المغرب ثاني أكبر مستثمر أفريقي في جنوب القارة بعد جنوب أفريقيا. ووصل حجم التبادل التجاري بين المغرب والدول الأفريقية إلى 6.9 مليار دولار عام 2018 مقارنة بــ5.6 مليار دولار عام 2017. وتواصل هذه الأرقام ارتفاعها خاصة مع زيادة استثمارات دول الخليج العربي، وخصوصا السعودية والإمارات، في دول أفريقيا.
وعزز المغرب من حضوره في منطقتي وسط وغرب أفريقيا لكي يشمل توقيع 100 اتفاقية مع 28 دولة أفريقية، مستغلا مركزه الجغرافي الاستراتيجي المتميز، والاستثمار الأجنبي المتزايد، ومستويات الدين الخارجي. واستطاعت المجموعات المغربية البنكية أن تظهر قدرة تنافسية دولية، فبنك “التجاري وفا”، على سبيل المثال، يعمل في 13 دول أفريقية في جنوب الصحراء، كما يمتلك “البنك الشعبي المركزي” شبكة مكوّنة من 19 فرعا معتمدة في المنطقة.
وأقنعت الرباط نيجيريا بإنشاء خط أنابيب غاز يمتد على طول الشريط الساحلي بين نيجيريا والمغرب. كما اتخذت خطوة هامة ببناء أكبر مصنع للأسمدة في القارة بتكلفة إجمالية تبلغ 3.6 مليار دولار. ويخطط المغرب للاستثمار في موانئ إريتريا، فيما أعلنت شركة الاتصالات المغربية أن عدد منخرطيها في القارة تجاوز 60 مليون مستخدم، وباتت شركة الاتصالات تنشط في 11 دولة.
ويطمح المغرب لأن يجعل من ميناء طنجة المتوسط إحدى أكبر المحطات اللوجستية التي تربط بين أقرب سوق عالمية (الاتحاد الأوروبي) وغرب أفريقيا، وهو بذلك يضع لبنة كبرى في قيادة التجارة البحرية الأفريقية عبراتصاله بـ186 منفذا حول العالم في 77 دولة.
هذا المنحى يتم تعزيزه باتجاه اهتمام دول الخليج العربي بدول منابع حوض النيل والقرن الأفريقي. إذ وجهت استثماراتها بداية في منطقة النيل الشرقي، بخاصة في مصر والسودان، وجنوب السودان، وإثيوبيا وإريتريا.
وبلغت الاستثمارات الخليجية 13 مليار دولار خلال الفترة 2000-2017. وشملت 434 مشروعا، يرجع 77 بالمئة منها إلى السعودية (252 مشروعا)، والإمارات العربية المتحدة (133 مشروعا)، لكل منهما نحو 5 مليارات دولار، ثم الكويت بـ2.4 مليار دولار شملت (31 مشروعا).
وتعد السعودية أكبر مستثمر في مجال الزراعة في حوض النيل، حيث تملك 66 بالمئة من جملة المشروعات الزراعية، تليها الإمارات العربية المتحدة (27 بالمئة)، والكويت (7 بالمئة)، وقطر (1 بالمئة).
ونظرا للدور التنموي الذي تلعبه الاستثمارات السعودية والإماراتية، فإنها استطاعت التأثير إيجابيا في مجريات الصراع الدائر بين إثيوبيا وإريتريا عبر توقيع اتفاق سلام في جدة في 16 سبتمبر 2018.
على إثر هذا الانفراج الهام، استضافت السعودية محادثات مباشرة بين إريتريا وجيبوتي لإيجاد حلول للنزاعات الحدودية بينهما، مما جعل هذه المبادرة أنجح مبادرة سياسية تضع حدا لصراع طويل الأمد، فشلت في حله القوى الدولية الكبرى.
يمثل الحضور المغربي والسعودي والإماراتي والمصري نواة عربية مركزية لمسار جديد تقوده جامعة الدول العربية مع الاتحاد الأفريقي
والجدير بالذكر، أن هذه الخطوات سبقها تنسيق سعودي إماراتي. إذ اضطلعت الإمارات على مستوى الرؤية والسياسات بأدوار مهمة في التوصل لاتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا. وهي تحاول العمل على صيانة أمن القرن الأفريقي، الجدار الخلفي لأمن الخليج.
وتعد الإمارات ثاني أكبر مستثمر في القارة السمراء من منطقة الشرق الأوسط، حيث تقدر استثماراتها بنحو 11 مليار دولار. وتلعب دورا مهما في القرن الأفريقي بفضل الدور الطلائعي لشركة “موانئ دبي العالمية” وحضورها الهام في موانئ الصومال وإريتريا بالقرب من باب المندب.
نواة عربية مركزية
يمكن أن يمثل الحضور المغربي والسعودي والإماراتي والمصري نواة عربية مركزية لمسار جديد تقوده جامعة الدول العربية مع الاتحاد الأفريقي، لأن التنافس الحالي على القارة لم يعد حرب مواقع وموارد بين الولايات المتحدة والصين وفرنسا فقط، بل ينطوي اليوم على أبعاد استراتيجية وأمنية كبرى ورهانات تنموية تؤثر في مستقبل العالم العربي بأسره.
تعد أفريقيا من أغنى القارات في العالم مستقبلا، وإن بدت اليوم أفقرها. لذلك لا بد من إغناء هذا الحضور العربي وجعله قاريا بفرض العمل التكاملي الاستراتيجي، وعدم حصر العلاقات في تعاملات فردية، لأن كل التكتلات القائمة ذات القيمة حاليا قائمة على التعاون الاقتصادي.
ومن ثم، إذا كانت اتفاقية التجارة الحرة القارية على الأبواب والمنتظر أن تدخل حيز التنفيذ بدءا من الأول من يونيو 2020، فهي ستتكامل عاجلا أم آجلا مع التحالفات الإقليمية الأخرى، مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس) واتحاد الكوميسا في شرقها، واتفاق سادك الخاص بمجموعة الجنوب الأفريقي، ومجموعة شرق أفريقيا (أيك)، ما يجعل منها أكبر تجمع اقتصادي على مستوى العالم بـ55 دولة.
وسترتفع بموجب هذه الاتفاقية نسبة التجارة البينية إلى 25 بالمئة في عام 2022، وستبلغ 220 مليار دولار، وتضم سوقها 1.2 مليار مستهلك. وعليه، يمكن القول إن العلاقة العربية الأفريقية يجب أن تتكيف وتستمر بنفس جديد.
د. حسن مصدق
أستاذ في جامعة فانسين باريس 8